منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 شهدت المنطقة تحولات جيوسياسية عميقة، كان لها بالغ الأثر على تيارات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين. وقد بدا واضحًا في الأردن أنّ الجماعة حاولت استثمار الأزمة لتوسيع نفوذها، سواء من خلال استغلال مشاعر التعاطف الشعبي مع اللاجئين، أو عبر إعادة تموضعها ضمن التحالفات الإقليمية التي تشكلت على وقع الانقسام السوري. ومع ذلك، فإنّ هذه التحركات لم تمر دون انتقادات واتهامات، سواء على مستوى ارتباطات الجماعة العابرة للحدود، أو على صعيد ازدواجية خطابها السياسي والدعوي. التقرير التالي يرصد، من زاوية نقدية، أبرز ملامح الدور الذي لعبته جماعة الإخوان الأردنية خلال الأزمة السورية، مع إضاءة على ردود الفعل الرسمية، والتحديات التي فرضتها تلك المرحلة على مفهوم السيادة الوطنية والاستقرار الداخلي في الأردن.
استثمار الأزمة السورية :
مع بدايات الحراك السوري تبنت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن خطاباً داعماً للثورة السورية، وشاركت في فعاليات شعبية تطالب بإسقاط النظام السوري، واعتبرت أنّ ما يحدث هو امتداد لما تسمّيه "الربيع العربي"، الذي كانت الجماعة تأمل في أن يُعيد تمكينها سياسياً بعد صدمة الإقصاء من الحكم في مصر وتراجع أجنحتها في دول أخرى.
في هذا السياق سعت الجماعة إلى توظيف الأزمة بما يخدم مصالحها، فدعمت جماعات المعارضة السورية القريبة منها إيديولوجيًا، وسعت لخلق روابط تنظيمية مع عناصر إخوان سوريا وقيادات معارضة مقيمة في الخارج.
وقد حذّر الباحث الأردني زيد النوايسة في دراسة منشورة بموقع مركز الإمارات للسياسات من "أنّ سلوك الجماعة خلال الأزمة السورية عكس رغبة في أن تكون طرفًا فاعلًا في رسم مستقبل سوريا والمنطقة، ولو على حساب السيادة الوطنية". هذا التوظيف للأحداث الإقليمية لم يكن غريباً عن سلوك الجماعة تاريخياً، لكنّه هذه المرة اتخذ طابعًا أكثر تنظيمًا وخطورة، في ظل المعلومات التي بدأت تتسرب عن خلايا مسلحة وتمويلات عابرة للحدود .
بحسب الباحث في الحركات الإسلامية محمد أبو رمان، فإنّ "الجماعة في الأردن رأت في الربيع العربي، والأزمة السورية تحديداً، فرصة تاريخية لإعادة إنتاج ذاتها كفاعل إقليمي، وليس فقط كتنظيم سياسي محلي"، وهو ما أثار مخاوف النخب الأردنية من أنّ الجماعة تجاوزت الإطار الوطني نحو أجندة أممية تتماهى مع مصالح حلفاء إقليميين، خاصة تركيا وقطر في تلك الفترة.
العلاقات العابرة للحدود: تهديد للسيادة الوطنية
تاريخيًا، لطالما اتُهمت جماعة الإخوان في الأردن بارتباطها العضوي بالتنظيم الدولي للجماعة، غير أنّ ما بعد 2011 أكد هذه المخاوف، خاصة مع تواتر التقارير التي أشارت إلى تنسيق وثيق بين قيادات من الجماعة في الأردن ونظرائهم في سوريا وتركيا. في هذا السياق، يشير تقرير صادر عن مركز (ستراتيجيكس) إلى أنّ "العمل السياسي للجماعة الأردنية لا يمكن فصله عن الحضور الإقليمي والدولي للتنظيم، وهو ما يجعلها أداة ضمن مشروع أكبر لا يُراعي بالضرورة خصوصية الدولة الأردنية".
وتعززت هذه المخاوف مع بروز جماعات مسلحة محسوبة على الإخوان في الجنوب السوري، كانت تعمل على مقربة من الحدود الأردنية، ممّا دفع جهات أمنية وسياسية أردنية للتشكيك في نوايا الجماعة وموقفها الحقيقي من الأمن القومي للمملكة.
ازدواجية الخطاب :
تُحاول جماعة الإخوان المسلمين الأردنية تقديم نفسها كحركة دعوية سلمية ذات خطاب إصلاحي، إلا أنّ تقارير متعددة، أمنية وسياسية، اتهمتها بالانخراط في أنشطة موازية تتجاوز الأطر القانونية. ويشير الباحث هشام النجار، المختص في الإسلام السياسي، إلى أنّ الجماعة "لم تنفصل يومًا عن نهجها الأصلي الذي يدمج بين الدعوة والسياسة والعنف حين تقتضي الضرورة، والدليل ما ثبت من تداخل بين جناحها السياسي والعسكري عبر سنوات".
يتابع النجار: "فرع الجماعة في الأردن لم يختلف عن النسخة التاريخية للتنظيم التي لم تفصل يومًا بين الحضور السياسي والنشاط المسلح. وحتى في لحظات ادعاء السلمية، كانت الجماعة تعتمد على توليد كيانات عنف موازية تقوم بالمهمة، كوسيلة لتجنب مصير تنظيمي مثل ما حدث عام 1965 في مصر". ويضيف: "منذ 2015 بدأت الجماعة بتشكيل خلايا سرّية في الأردن، على غرار خلية (حسم) في مصر، وهو ما يضعها موضع الشك الأمني الدائم".
موقف الدولة الأردنية :
في البداية تبنّت الدولة الأردنية سياسة احتواء تجاه جماعة الإخوان المسلمين، مراهنة على قدرتها على التكيف داخل الإطار الدستوري والقانوني. غير أنّ التطورات الأخيرة، خاصة بعد 2015، دفعت السلطات لتبنّي نهج أكثر صرامة. ففي عام 2020 أصدرت محكمة التمييز الأردنية قرارًا بحل جماعة الإخوان باعتبارها "كيانًا غير مرخص"، وهو ما شكل نقطة تحوّل رئيسية.
وفي نيسان (أبريل) 2025، وبعد الكشف عن خلايا مسلحة مرتبطة بالجماعة، بدأت السلطات في حملة توقيفات شملت شخصيات بارزة، كان آخرها نائب المراقب العام أحمد الزرقان، الذي يواجه اتهامات تتعلق بتمويل جماعات مشبوهة والتنسيق مع أطراف خارجية. وقد علّق المحلل الأردني عامر السبايلة على ذلك قائلًا: "الحكومة الأردنية تتعامل الآن بمنطق الأمن القومي، بعد أن ثبت أنّ الجماعة تتقاطع في تحركاتها مع قوى إقليمية تستهدف استقرار المملكة".
التحالفات الخارجية:
المفارقة أنّ جماعة الإخوان المسلمين، التي لطالما تبنّت خطابًا مناهضًا لإيران، وجدت نفسها، بعد تراجع رصيدها في السلطة، تلتقي موضوعيًا مع المحور الإيراني في ملفات معينة، خاصة في دعم جماعات "المقاومة" تحت شعار "تحرير فلسطين". ويشير هشام النجار إلى أنّ "الجماعة تحالفت مرحليًا مع تركيا بعد ما عُرف بالربيع العربي، ثم وجدت نفسها مضطرة للتقارب مع إيران للحيلولة دون عزل التيار الإسلامي السنّي والشيعي معًا، بحجة الدفاع عن قضايا الأمة".
ويضيف: "ارتبطت الجماعة بتحالفات جديدة كان هدفها فرض أمر واقع عبر الميليشيات المسلحة، سواء في سوريا أو غزة أو الأردن، ممّا يجعلها أداة لخدمة أطماع تركيا وإيران في المنطقة.
مآلات المشروع الإخواني في الأردن والمنطقة :
تشير الوقائع الأخيرة إلى أنّ المشروع الإخواني في الأردن يمر بمرحلة حرجة. الحظر القانوني، والضربات الأمنية، وانحسار الدعم الإقليمي، كل ذلك أسهم في تقليص قدرة الجماعة على الفعل والتأثير. كما أنّ التحالفات الإقليمية التي عقدتها الجماعة، خاصة مع إيران وتركيا، باتت عبئًا على صورتها، ودفعت حتى بعض القوى الوطنية في الأردن إلى النأي بنفسها عن خطاب الجماعة ومطالبها.
وفي تحليل نشره مركز (تريندز) للبحوث، وُصف المشروع الإخواني بأنّه "مشروع تخريبي واحتلال مقنّع عبر أدوات خائنة من الداخل"، مؤكدًا أنّ "المحصلة النهائية من نشاط أفرع الإخوان بالعمق العربي، بالتوازي مع الحليفين التركي والإيراني، كانت خدمة مباشرة لأهداف إسرائيل التوسعية في المنطقة".
ضرورة الحسم في مواجهة التهديدات العابرة للحدود :
تشير الحالة الأردنية إلى نموذج يمكن الاستفادة منه عربيًا في التعامل مع التنظيمات ذات الطابع العابر للحدود. فكما نجحت مصر في تفكيك المشروع الإخواني داخل مؤسسات الدولة، فإنّ الأردن بات يسير على النهج نفسه، مدفوعًا بتقدير استراتيجي يدرك خطورة استمرار الجماعة كأداة لمخططات غير عربية تستهدف الأمن القومي العربي.
وفي ضوء ذلك، تبدو الخطوة الأردنية الأخيرة بمثابة تحصين سياسي وأمني في مواجهة تمدد الجماعة، وتحولها من تنظيم محلي إلى أداة لتنفيذ أجندات إقليمية خطيرة.